أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تعليق

هناك وحش في حديقتنا الخلفية، ولكن لا داعي للقلق

لا يستطيع حتى الضوء الهروب من الثقب الأسود الموجود في مركز مجرتنا. لكننا سنكون بخير... ما دمنا على مسافة آمنة منه

في مايو 2022 التقط علماء الفلك أول صورة للوحش الموجود في مجرتنا: إنه الرامي أيه* Sagittarius A*، الثقب الأسود الهائل الذي تبلغ كتلته أربعة ملايين ضعف كتلة الشمس ويكمن في مركز مجرة درب التبانة.

يختص التلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope، وهو تعاون عالمي يربط المراصد حول العالم لدمج البيانات في صورة واحدة فائقة الدقة، في التقاط ”ظلال“ Shadows الثقوب السوداء الفائقة Supermassive black holes.

بدلاً من حجب الضوء يتولد ظل الثقب الأسود بفعل ثني الفضاء المحيط به بعنف شديد بحيث يشوه Distort أي ضوء يمر بالقرب منه – على سبيل المثال، التوهج الساطع للمادة التي تدور في القرص المتنامي Accretion disc – ويعاد توجيهه، مع سحب بعضه إلى الجسم نفسه.

يؤدي هذا التشوه إلى لف الضوء حول الثقب مثل العباءة، لكنه يترك فجوة في المركز تظهر للمراقب على أنها… ثقب أسود أيضاً. والظل معتم، ليس لأن الضوء محجوب، بل لأنه استُهلك.

إن أفق الحدث الذي يأخذ التلسكوب اسمه منه، هو الحد الكروي حول الثقب الأسود الذي يمثل نقطة اللاعودة: أي شيء يعبر تلك الحدود يُسحب بلا هوادة إلى مركز الثقب الأسود.

وفي أفق الحدث فإن سرعة الهروب (أي السرعة المطلوبة للهروب من جاذبية الثقب) تساوي سرعة الضوء. ووضعت النظرية النسبية الخاصة لآينشتاين سرعةَ الضوء كحد صارم: لا يمكن لأي شيء في الكون أن يتجاوزها، لذلك لا يمكن لأي شيء الهروب من الثقب الأسود.

لقد أكدت لنا صورة الرامي أيه* أيضاً أنه لا توجد ثقوب سوداء فائقة الكتلة فحسب، بل إن قواعد النسبية هي (حرفياً) لا مفر منها. 

بالطبع لا يكتفي الرامي أيه* باستهلاك الضوء. فهو مثل جميع الثقوب السوداء فائقة الكتلة، يسحب أي غاز أو غبار أو بلازما شديدة الحرارة قد تكون موجودة بالقرب من أفقه. بين الحين والآخر، مما يثير سرور علماء الفلك، تلتهم الثقوب السوداء الفائقة نجوماً بكاملها، عندما تمزق هذه النجوم قوى المد والجزر تنبعث منها رشقات من الأشعة السينية X-ray.

حالياً كل ما رأينا الرامي أيه* يأكله هو بضع سحب متكتلة من الغاز، لكننا نعلم أنه ليس من النوع الذي يصعب إرضاؤه.

إذن هل يجب أن نقلق؟ هل يشبه وجودُ كائن ضخم لا يشبع كتلته أربعة ملايين ضعف كتلة الشمس جاثم في مركز مجرتنا فتحةَ تصريف في حوض الاستحمام الكوني؟ هل هو شيء يؤرق مضاجع علماء الفلك؟

لا، لأنه على الرغم من سمعتها السيئة، فإن الثقوب السوداء (أياً كان حجمها) غير ضارة على الإطلاق لمن لديه الحس السليم لعدم الاقتراب منها. يتعلق الأمر بالدقة التي تعمل بها الجاذبية على مسافات مختلفة.

وفقاً لنظرية النسبية العامة Theory of General Relativity لآينشتاين، فإن ما نختبره كجاذبية هو نتيجة انحناء الفضاء المحيط بجسم ضخم نحوه، مما يغير الكيفية التي تتحرك وفقها الأجسام والضوء عبر هذا الفضاء.

كل المادة (والطاقة) تعمل على ثني الفضاء إلى حد ما، ولأن الجاذبية هي قوة لا نهائية، فإن الفضاء الذي نوجد فيه حالياً يتأثر بمستوى متناهٍ في الصغر بجاذبية كل شيء آخر في الكون.

إن الشيء المميز في الثقب الأسود هو أن الانحناء القريب جداً من نقطة التفرد Singularity في قلبه يكون متطرفاً جداً، بحيث لا يمكن الإفلات من أفق حدث الثقب الأسود. بمعنى آخر: أي مسار بعيد عن منحنيات التفرد ينحني مرة أخرى على نفسه.

وحتى في المنطقة القريبة من الأفق، يمكن لقوى المد والجزر الشديدة أن تدمر أي شيء يقترب كثيراً منها. ولكن بمجرد أن تكون خارج منطقة الخطر تلك، يبدو الانحناء المكاني مطابقاً لما ستشعر به على مسافة مكافئة من أي نجم عادي أو كتلة كبيرة من المادة.

”إذا انهارت الشمس وأصبحت ثقباً أسود الآن، فستستمر الأرض في الدوران“

إذا انهارت الشمس وأصبحت ثقباً أسود الآن، فستستمر الأرض في الدوران من دون أن تتأثر بذلك على الإطلاق. سيصبح الجو بارداً جداً ومعتماً جداً، لكننا بعيدون بما فيه الكفاية بحيث لن يكون لدينا أي مقاييس نستخدمها لقياس الجاذبية يمكنها أن تخبرنا أن الثقب الأسود ليس إلا مجرد نجم عادي (على الرغم من أنه معتم على نحو مثير للقلق).

عندما يتعلق الأمر بالرامي أيه*، الثقب الأسود الفائق الموجود في مركز مجرة درب التبانة، فإن تأثير جاذبيته في مجموعتنا الشمسية ليس فقط لا يمثل تهديداً لنا، بل إنه ليس مهماً أبداً لمدارنا حول مركز المجرة Galactic Centre.

إن كتلة النجوم والغاز والغبار في المركز تفوقه بمرات عديدة، وهذا لا يشمل حتى كل المادة المعتمة Dark matter الشبحية التي تملأ كل ذاك الفضاء. يظل مدارنا المجرّي، إضافة إلى مدارات جميع النجوم الأخرى في القرص، آمناً.

في الوقت الحالي على الأقل.

د. كيْتي ماك (AstroKatie@) كيْتي عالمة في الفيزياء الفلكية النظرية. تشغل حالياً منصب كرسي هوكينغ Hawking Chair in Cosmology and Science Communication في علم الكون والتواصل العلمي في معهد بيريمتر للفيزياء النظرية Perimeter Institute for Theoretical Physics.
بعد نحو أربعة بلايين سنة، ستصطدم مجرة درب التبانة بمجرة المرأة المسلسلة Andromeda Galaxy، مما سيؤدي إلى تناثر النجوم والكواكب عبر الكون في فوضى عارمة ناثرة الضوء والبريق في كل مكان. ومن المحتمل أن يسبب ذلك أن تلتف الثقوب السوداء الفائقة في مركزي المجرتين معاً وتندمج بعضها ببعض.

لا يمكن توقُّع ما سيحدث لمجموعة النجوم بحلول ذلك الوقت، ولكن نأمل أنه في مكان بعيد عبر الكون، سيقف شخص مستعداً ليلتقط صورة هذا المشهد الرائع حقاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى